صيام رمضان هل يكفر الذنوب كلها بما فيها الكبائر ؟
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلم على اشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحابته الطاهرين وبعد :
أخوتي في الله في منتدى البيضاء العلمية
السلام عليكم ورحمةالله وبركاته وشهر مبارك
الصيام ركن من أركان الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة ،وهو فرض عين على كل مكلف ،وحكم صيام رمضان بدليل الكتاب والسنة والإجماع .
أما الكتاب :
فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة : 183]. وقوله تعالى "فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ " البقرة 185
وأما السنة :
فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: « بُنِىَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ ؛ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَحَجِّ الْبَيْتِ » متفق عليه
البخاري ( 1/12، كتاب الإيمان ، باب الإيمان وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : بني الإسلام على خمس، ح: 8) ، ومسلم ( 1/45، كتاب الإيمان ، باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام ، ح : 16).
وفي البخاري وغيره أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ما أفترض الله عليه من الصيام فقال شهر رمضان إلا أن تطوع 0
وأما الإجماع :
فقد نقله غير واحد من أهل العلم أنظر المغني 7/ 85 والمجموع 6/ 152 وبداية المجتهد 1/ 283 والمحلى رقم المسألة 727 والفتح 4/ 102وأنه أحد أركان الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة ، والتي يكفر جاحدها ، ويُعَدُّ مُرْتَدّاً والعياذ بالله تعالى.
انظر: بدائع الصنائع للكاساني (2/75) ، المجموع شرح المهذب للنووي (6/248) ، الذخيرة في الفروع للقرافي ( 2/487 ) ، المغني لابن قدامة (3/3) ، بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد الحفيد (1/480).
ومن أخص فضائل الصيام أكان واجبا أو مستحبا ما جاء في الصحيحين : "عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال الله عز وجل : «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ ، إِلاَّ الصِّيَامَ ، فَإِنَّهُ لِي ، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ ، فَلاَ يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَصْخَبْ ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ ، فَلْيَقُلْ : إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ ، مَرَّتَيْنِ ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا : إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ ، عَزَّ وَجَلَّ ، فَرِحَ بِصِيَامِهِ» متفق عليه
- البخاري (2/673، كتاب الصيام ، باب هل يقول: إني صائم إذا شُتِم ؟، ح: 180) ، مسلم ( 2/807، كتاب الصيام ، باب فضل الصيام ، ح : 1151).
قال النووي رحمه الله تعالى : " وفي هذا الحديث بيان عظم فضل الصوم والحث إليه ، وقوله تعالى: « وأنا أجزي به » بيانٌ لعظم فضله وكثرة ثوابه ، لأن الكريم إذا أخبر بأنه يتولى بنفسه الجزاء اقتضى عظم قدر الجزاء وسعة العطاء "
وجاء في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه "
قال الحافظ في الفتح وَقَوْلُهُ " مِنْ ذَنْبِهِ " اِسْمُ جِنْسٍ مُضَافٌ فَيَتَنَاوَلُ جَمِيع الذُّنُوبِ ، إِلَّا أَنَّهُ مَخْصُوصٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ 0000
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ » :" اختلف في الذنوب التي يكفرها صوم رمضان ، هل هي الصغائر والكبائر ؟ ، أم الصغائر فقط ؟ .
جزم بالأول :ابن المنذر ، ، وقال النووي ، ودليلهم : ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: « الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ ، مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» ، فقيَّد الذنوب في هذا الحديث باجتناب الكبائر .
قال الحافظ في الفتح أيضا :
قَوْله : ( بَاب الصَّوْم كَفَّارَة )
كَذَا لِأَبِي ذَرّ وَالْجُمْهُور بِتَنْوِينِ بَاب ، أَيْ الصَّوْم يَقَع كَفَّارَة لِلذُّنُوبِ ، وَرَأَيْته هُنَا بِخَطِّ الْقُطْب فِي شَرْحه " بَاب كَفَّارَة الصَّوْم " أَيْ بَاب تَكْفِير الصَّوْم لِلذُّنُوبِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَثْنَاء الصَّلَاة " بَاب الصَّلَاة كَفَّارَة " وَلِلْمُسْتَمْلِي " بَاب تَكْفِير الصَّلَاة " وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيث الْبَاب بِعَيْنِهِ مِنْ وَجْه آخَر عَنْ أَبِي وَائِل ، وَقَدْ تَقَدَّمَ طَرَف مِنْ الْكَلَام عَلَى الْحَدِيث وَيَأْتِي شَرْحه مُسْتَوْفًى فِي عَلَامَات النُّبُوَّة إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى ، وَفِيهِ مَا تَرْجَمَ لَهُ لَكِنْ أَطْلَقَ فِي التَّرْجَمَة وَالْخَبَر مُقَيَّد بِفِتْنَةِ الْمَال وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ ، فَقَدْ يُقَال لَا يُعَارِض الْحَدِيث السَّابِق فِي الْبَاب قَبْله وَهُوَ كَوْن الْأَعْمَال كَفَّارَة إِلَّا الصَّوْم لِأَنَّهُ يُحْمَل فِي الْإِثْبَات عَلَى كَفَّارَة شَيْء مَخْصُوص وَفِي النَّفْي عَلَى كَفَّارَة شَيْء آخَر ، وَقَدْ حَمَلَهُ الْمُصَنِّف فِي مَوْضِع آخَر عَلَى تَكْفِير مُطْلَق الْخَطِيئَة فَقَالَ فِي الزَّكَاة " بَاب الصَّدَقَة تُكَفِّر الْخَطِيئَة " ثُمَّ أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيث بِعَيْنِهِ ، وَيُؤَيِّد الْإِطْلَاق مَا ثَبَتَ عِنْد مُسْلِم مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة أَيْضًا مَرْفُوعًا " الصَّلَوَات الْخَمْس وَرَمَضَان إِلَى رَمَضَان مُكَفِّرَات لِمَا بَيْنهنَّ مَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِر " وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْث فِي الصَّلَاة . وَلِابْنِ حِبَّان فِي صَحِيحه مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد مَرْفُوعًا " مَنْ صَامَ رَمَضَان وَعَرَفَ حُدُوده كَفَّرَ مَا قَبْله " وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيث أَبِي قَتَادَةَ " إِنَّ صِيَام عَرَفَة يُكَفِّر سَنَتَيْنِ وَصِيَام عَاشُورَاء يُكَفِّر سَنَة " وَعَلَى هَذَا فَقَوْله " كُلّ الْعَمَل كَفَّارَة إِلَّا الصِّيَام " يُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْمُرَاد إِلَّا الصِّيَام فَإِنَّهُ كَفَّارَة وَزِيَادَة ثَوَاب عَلَى الْكَفَّارَة ، وَيَكُون الْمُرَاد بِالصِّيَامِ الَّذِي هَذَا شَأْنه مَا وَقَعَ خَالِصًا سَالِمًا مِنْ الرِّيَاء وَالشَّوَائِب
و الأعمال التي تكفر الذنوب كثيرة، وهذا من فضل الله تعالى ورحمته ، ومن هذه الأعمال: الوضوء، والمشي إلى المساجد، وانتظار الصلاة، والمحافظة على الصلوات الخمس، وصلاة الجمعة، وقيام رمضان، وصيامه، وصيام عرفة وعاشوراء، والحج والعمرة، والصدقة،وغير ذلك كثير وعل قول أهل العلم بأن هذه المكفرات إنما تكفر الصغائر دون الكبائر، وأن الكبائر لا يكفرها إلا التوبة، كما ذهب إلى ذلك الجمهور.
وقال الإمام ابن العربي المالكي :[ الخطايا المحكوم بمغفرتها هي الصغائر دون الكبائر لقول النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر ) فإذا كانت الصلاة مقرونة بالوضوء لا تكفر الكبائر فانفراد الوضوء بالتقصير عن ذلك أحرى ).
وقال أبن القيم رحمه الله فيما جاء في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلي رمضان مكفِّرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر .
وهذه الأعمال المكفِّرة لها ثلاث درجات :
أحدها : أن تقصُر عن تكفير الصغائر لضعفها وضعف الإخلاص فيها والقيام بحقوقها بمنزلة الدواء للضعيف الذي ينقص عن مقاومة الداء كمية وكيفية .
الثانية : أن تقاوم الصغائر ولا ترتقي إلى تكفير شيء من الكبائر .
الثالثة : أن تقوى على تكفير الصغائر وتبقى فيها قوة تُكفَّر بها بعض الكبائر .
وخلاصة القول أن التوبة من الكبائر واجبة فالله سبحانه وتعالى أو جب التوبة على عباده المؤمنين فالكبائر لا تُكفَّر بدون التوبة ؛ لأن التوبة فرض على العباد .
كما قال تعالى في سورة التحريم :
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ "
وقال الشيخعبدالرحمن السحيمعضو مكتب الدعوة والإرشاد جوابا على سؤال وجه له :
والأظهر - والله أعلم - في هذه المسألة أعني مسألة تكفير الكبائر بالأعمال ؛ إن أريد أن الكبائر تُمحي بمجرد الإتيان بالفرائض وتقع الكبائر مكفَّرة بذلك كما تُكفَّر الصغائر باجتناب الكبائر ، فهذا باطل ، وإن أريد أنه قد يوازن يوم القيامة بين الكبائر وبين بعض الأعمال فتُمحى الكبيرة بما يقابلها من العمل ، ويسقط العمل فلا يبقى له ثواب ، فهذا قد يقع ، وقد تقدم عن ابن عمر أنه لما أعتق مملوكه الذي ضربه قال : ليس لي فيه من الأجر شيء ، حيث كان كفارة لذنبه ، ولم يكن ذنبه من الكبائر ، فكيف بما كان من الأعمال مكفِّرا للكبائر ؟ وسبق أيضا قول من قال من السلف : إن السيئة تُمحى ويَسقط نظيرها حسنة من الحسنات التي هي ثواب العمل ، فإذا كان هذا في الصغائر ، فكيف بالكبائر ؟ فإن بعض الكبائر قد يُحبط بعض الأعمال المنافية لها كما يُبطل المنّ والأذى الصدقة . اهـ .
وقد أطال الحافظ ابن رجب رحمه الله في هذه المسألة ، فمن أراد المزيد فليرجع إليها في جامع العلوم والحِكم .