lovelife 2 قام بنشر June 13, 2009 (تعديل) الوفـــــــــــــــــاء كان في ما كان، في قديم الزمان، رجل صالح، أو هكذا نَحْسِبُ ولا نُزَكِّي على الله أحدا، كانَتْ لَهُ دارُ واسِعَةٌ، فيها مَرافِق كثيرة، وفيها حديقة مليئة بالأشجار المُثمِرة والزُّروع المتنوعة، وكان في الحديقة مرافق أخرى تَأْوي أنواعا متعددة من الدَّواجِن: دَجاجٌ وحَمامٌ، وطُيورٌ مُغَرِّدَةٌ، فَضْلا عن حيوانات أَلِيفَة، خِراف وماعِز، لَمْ يَكُنِ الرجل غَنِيّاً ولكن حَسَن التَّدْبير، رفِيع العِناية، مُؤَدِّيا لِمَسْؤولِيَّتِه بكامل الرِّعاية الأَبَويَّة الرَّحِيمة، اليَقَظة الذكية والعادلة. وكان للرجل زَوْجٌ كريمة تَحْظى منه بِمَوَدَّةٍ ورَحْمَةٍ، ورفْقٍ وإكْرام مُنْقَطِع النَّظير، ومع الزوج كان للرجل أبناء ثمانية: بنتان وستة أولاد وخادمة تعيش كأنها بنت من أبنائه، بل تحظى من حُنُوِّهِ وعطف زوجه بما لا يحظى به أبناؤه وبنتاه. وكان للرجل كلبة، شَرَّفَ الله قَدْرَكُم، مِنَ الجَمال نهاية، ومِنْ حُسْنِ التَّدْريب بحيث إذا قَضَتْ حاجتها قَضَتْها في الحديقة وأَقْبَرَتْها في أرضها، وعَتَتْ عليها التراب. وكانت هذه الكلبة واسمها "لِنْدَة" كلبة نظيفة، ذكية رشيقة رقيقة بحيث تَسْعَى جُهْدَها لإصلاح ذات البَيْنِ. إذا فسد ما بين عضوين من أعضاء هذه الأسرة المباركة تُباعِدُ بين المُتَشاجِرَيْنِ، وتُواسِي الحزين المكروب، وتشيع نوعا من الحيوية والنشاط في البيت وبين أهله. وكانت مع هذا حارسة البيت الأمينة عَيْناً وأُذُناً على كل حركة غير عادية في ليل أو نهار تدعو إلى التَّوَجُّسِ والرِّيبَة. مَضَتْ سنواتٌ والأسرة المباركة بقيادة هذا المسدد، وبحراسة تلك الكلبة الذكية النقية الوفية تعيش هانِئَةً مُطمَئِنَّةً، بِما قَسَّمَ الله لها، وساعِيَةً بِاقْتِصادٍ وحُسْنِ تَدْبير لِتَعيشَ في حَلالٍ وعلى أَحْسَنِ حال، إلى أن جاء القرار الكارثة إقرار إلحاق الدار بالقصر قصر ملك ذاك الزمان، ذلك أن الملك رَغِبَ في تَوْسِيع القصر لِيَشْمَلَ الحَيَّ المُجاور له، ولِيُقَدِّمَ القَصْرَ المُشَيَّدَ بشكله المُنَقَّحِ والمزيد إلى مَلِكٍ صديق وجاء منزل الرجل الرشيد في الطريق. وهكذا اضطرت الأسرة الآمنة أن تعيش جوا من الاضطراب والخوف والأمر الآسر القاهر. ولكن الأب وقف وقفة الرجل الشجاع المُتَمَنِّعِ على المُساوَمَة في حقوق أهل بيته. وطالب السُّلُطات الآمرة بديلا عن منزله الواسع داراً يَسْكُنُها وأرْضاً يَبْنِيها فَلَمْ تَجِدِ السُّلُطات بُدّاً من الاستجابة مع إلحاح الرجل، ورَباطَةِ جَأْشِه، وقوة إيمانه بالله، ثم بِقَضِيَّتِه العادلة... ولَمْ يَبْقَ بعد ذلك مِنْ عَقَبَةٍ إلا مشكلة الكلبة، حيث لَمْ يَعُدْ لها في المنزل الجديد فضاء يَسَعُها ويَسْتَوْعِبُ حَرَكَتَها ونشاطها ومَبِيتَها وقَضاءَ حاجَتِها وهذه مُعْضِلَة، فلا سبيل لإِجْلاءِ الكلبة خارج الدار ولا سبيل إلى إبقائها ضِمْنَ ساكِنِيها. رَبَّاهُ ما العمل؟! وفَكَّرَ أصدقاء وأقارب في حُلُولٍ باءَتْ كُلُّهَا بالفَشَلِ، منها أَنْ تَمَّ الذهاب بالكلبة إلى صديق في ضواحي المدينة بعدما وُضِعَتِ الكلبةُ في كِيسٍ وحُمِلَتْ في سيَّارة وسِيقَتْ في جَوْفِ الليل إلى الضاحية ومن ثم إلى منزل الصديق الملائم. ولكن بعد أيام أفاق أهل الدار على خَرْبَشاتٍ في الليل وأَنِينٍ حزينٍ، فإذا المُخَرْبِشُ المُئِنُّ لِنْدَة. وجاء اليوم الموعود، يوم مغادرة المنزل للانتقال إلى البيت الجديد. وأصاب الأسرة وُجُومٌ وهُمومٌ خاصَّةً الرَّجُلُ الرَّشيدُ حيث لَمْ يَعُدْ يَغْمَض لَهُ جَفْنٌ، ولا طاب له طعام وهو يَعْلَمُ عِلْمَ يَقِين أن مصير لندة مجهول يَلُفُّهُ سيء الظنون، بعد أن اسْتَنْفَذَتْ كُلَّ الحُلول. وحَلَّتِ العَشْرُ الأواخر من رمضان، وكان موعد المغادرة يُوافِقُ الصَّباح المُوالي لليلة السابع والعشرين. ودَخَلَتِ العائِلَةُ في دُعاءٍ، ودَخَلَتِ الكلبة في إِضْرابٍ عَنِ الطَّعام والنَّشاط. واستنفذت ليلة السابع والعشرين دعاء الأسرة المباركة. وجاء الصباح، ولَمْ يَبْقَ مِنَ المَكْتوب هُروب، ولا مِنَ القضاء حَذَرٌ ورَضِيَ الجميع بما حَكَمَ الله وقَدَّرَ. وذهب الوالد يَتَفَقَّدُ كلبته لِنْدَة لِيَشْمَلَها بِآخِر نَظْرَةِ وفاءٍ وعزاءٍ، وإذا بِهِ يَقِفُ أمامَ كلبته واجِماً مَشْلُولَ الإرادَةِ ولَمْ يَمْلِكْ إلاَّ البُكاء وهو يَرْفَعُ هذا النِّداء. فلانة فلانة فلانة فلان فلان من أهله وبناته وأبنائه. تَعالَوْا قُضِيَ الأَمْرُ، لا خَوْفَ عليكم ولا حُزْنَ بعد اليوم. وهَرَعَ الجميع مُسْتَجِيبِين وهُمْ ما بَيْنَ فَرَحٍ واسْتِغْرابٍ، لِيَرَوْا لِنْدَة مُمَدَّدَةً على الأرْض جُثَّةً هامِدَةً بِلا حِراك، ودَمْعَتانِ مُرْتَسِمَتانِ على الخَدَّيْنِ مُنْحَدِرَتانِ بهُدوءٍ وجَلاءٍ. لقد ماتَتْ لندة ونَقَشَتْ في حين الرجل والأسرة والتاريخ إحدى أعظم آيات الوفاء. تم تعديل June 13, 2009 بواسطه lovelife شارك هذه المشاركه رابط المشاركه شار ك علي موقع اخر