سبرتو 2 قام بنشر November 9, 2006 عبّر المبشر جون تاكلي Jhon Taklet، عن الشعور أو عن الموقف المسيحي العام من الإسلام، ومن القرآن بوجه خاص، عندما قال: ((يجب أن نستخدم كتابهم ـ أي القرآن ـ وهو أمضى سلاح في الإسلام، ضد الإسلام نفسه لنقضي عليه تماماً. يجب أن يرى هؤلاء الناس، أن الصحيح في القرآن ليس جديداً، وأن الجديد فيه ليس صحيحاً)). وإذا كان تهديم الدين الإسلامي، بالنسبة لهذا المبشر أمر حيوي ومهم، وغاية أساسية، ومهمة مقدسة، يرى أن تستعمل المسيحية لتنفيذها شتى الوسائل والطرق، بما فيها وأهمها التشكيك بما لدى الإسلام من مبادئ وتعاليم، وأهمها القرآن بالطبع، ليتحقق الهدف ((المقدس)) مهما طال الوقت وتكثف الجهد. فإن المبشر جسب Jesp يرى الأمر نفسه، ولكن بصورة أكثر إلحاحاً واستعجالاًن وأشد لهفة لرؤية الإسلام، وقد تقوض أساسه، وانهار بنيانه، وامحى أثره من الوجوه، فنراه يختصر معاناته، ويختزل أحقاده ومواقفه العدائية من الإسلام، بطلب فج وقح، فيقول: (يجب أن يمحي الإسلام من العالم)). القرآن، هو المعقل الرئيسي الذي يتحصن به المسلمون، حفاظاً على وحدتهم، وهو الحلقة الأكثر صلابة وتماسكاً في البنية الإسلامية، إذ لولاه لما كان إسلام ولا مسلمون. فإذا استطاع المؤلف تفكيك هذه الحلقة الصلبة، هان عليه بعدها كل شيء .. وبعد القرآن، أو معه تأتي معجزة أمية النبي، المؤكدة لسماوية القرآن وقدسية تعاليمه. وعليها يركز معوله الهدام وقلمه الخبيث، فقال: ((وما آية النبي الأمي الواردة في القرآن، إلا لتعني شيئاً آخر غير الذي يقصده المذهولين)). وأضاف: ((وأما العلم الذي كان يجهله ثم تعلمه، فهو علم الكتاب المنزل، أي علم الإلهيات، والروحانيات، والتشريع، وهو العلم الذي اكتسبه محمد من لدن خبير حكيم)). ومعروف أن (الحكيم الخبير) بنظره ليس الله، وإنما ورقة بن نوفل. وتابع يقول: ((والدليل الثاني على معرفة محمد بالقراءة والكتابة من دعوة جبريل للنبي في السورة الأولى من تاريخ نزول القرآن فيها يدعو الملاك جبرائيل محمد. اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق. ولولا معرفة محمد بالقراءة ولولا صحة ما جاء في الآية لما اتفق الجميع على سرد الوقيعة)). فالمؤلف هنا كما هو واضح، يريد الطعن بأمية النبي، كمعجزة من معجزات نبوته، كمقدمة للطعن بنبوته وبسماوية القرآن. ولذلك نرى، أن لابد من بحث موضوع أمية الرسول، ببعض التوسع والتفصيل. إن أمية النبي موضوع جردت من أجله الأقلام، وتعددت حوله الآراء، واختلفت فيه الأبحاث، فمن تعاطاه بحثاً وتدقيقاً، واحد من إثنين. 1 ـ معاد للإسلام، لا همّ له من بحثه سوى التشويه، غريزته مقود تفكيره، وحقده الأعمى دليل طريقه، فأساء القصد، وأضل السبيل. 2 ـ أو باحث لا همّ له سوى الحقيقة، دون جنوح إلى عاطفة، أو ميل نحو انتماء. العقل سراج بحثه، والتجرد شعار عمله، فأحسن القصد، وأجاد العطاء، وهو من نحتاج إلى رأيه وبه مقتدون. وما يشغل بال الحريري في أمية النبي، هو كونها معجز من معجزات النبوة، وإحدى البراهين على سماوية القرآن، ليس إلا، ولذلك فهو يصارع كل شيء للوصول إلى تحطيمها، ورفضها، وصولاً لتحطيم القرآن. فيقول بما معناه: ((إن آيات النبي الأمي ـ أو ـ وأرسلنا من الأميين نبياً، وسواهما من الآيات، لا تعني جهل النبي بالقراءة والكتابة، وإنما تعني تعريفه بشخصيته الاجتماعية، كونه ينتمي إلى فئة من المجتمع تسمى بالأميين، وهم العرب، فيما كان اسم الكتاب يطلق على اليهود)). ولابد لنا قبل مناقشة موقفه الرافض لأمية النبي، من أن نعود إلى القرآن الكريم، لنستطلع الأمر منه، ونعيد التبصر بروية وتمعن بالآيات التي وردت فيها كلمة (أمي) علناً بتجرد وموضوعية نصل إلى وضع الأصبع على الجرح، في موضوع دقيق حساس، كموضوع أمية النبي. مجموع ما جاءت فيه كلمة (أمي) في القرآن الكريم، ست آيات نستعرضها، وتفسيرها بما يلي: الآية الأولى من سورة الأعراف: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) الأعراف/ 157. والآية الثانية: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون) الأعراف/ 158. في الآية الأولى نبأ عظيم، يشهد بأن بني إسرائيل، قد جاءهم اليقين بالنبي الأمي، على يدي نبيهم موسى، ونبيهم عيسى، منذ أمد بعيد. جاءهم الخبر اليقين، ببعثته، وبصفاته، وبمنهج رسالته، وبخصائص ملته، فهو النبي الأمي. وفي الآية الثانية يوجه الخطاب إلى النبي الأمي، يأمره بإعلان الدعوة إلى الناس جميعاً. الآية الثالثة من سورة آل عمران: (وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم؟) آل عمران/ 20. جاءت اللفظة هنا بصيغتها الجماعية (الأميين)، تساوي الآية بين المشركين وأهل الكتاب، فالأميون هنا العرب المشركون، الذين لا يجيدون قراءة ولا كتابة، فهم وأهل الكتاب سواء، مدعوون إلى الإسلام. والآية الرابعة من سورة الأعراف: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم مَن أن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً. وذلك أنهم قالوا: ليس علينا في الأميين سبيل. ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) آل عمران/ 75. منهم ـ من أهل الكتاب ـ أمناء، ومنهم خونة، طامعون، مماطلون، لا يردون حقاً وإن صغر، إلا بالمطالبة والإلحاح والملازمة، ثم هم يترجمون ويفلسفون هذا الخلق الذميم، بالكذب على الله عن علم وقصد، وهذه صفتهم بالذات، صفة اليهود الذين يجعلون للأخلاق مقاييس متعددة .. فالأمانة تكون بين اليهودي واليهودي، أما غير اليهود، ويسمونهم الأميين، وكانوا يعنون بهم العرب، وهم في الحقيقة يعنون كل مَن سوى اليهود، فلا حرج على اليهودي في أكل أموالهم وغشهم وخداعهم، ويلاحظ أنها المرة الثانية التي تأتي بها اللفظة بالصيغة الجماعية. الآية الخامسة من سورة الجمعة: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) الجمعة/ 2. جاء في (ظلال القرآن) لسيد قطب وفي مجمع البيان للطبرسي تفسير هذه الآية كالآتي: ((قيل إن العرب سموا بالأميين، لأنهم لا يقرأون ولا يكتبون في الأعم الأغلب، وسمي مَن لا يكتب أمياً، لأنه نسب إلى حال ولادته من الأم، لأن الكتابة إنما تكون بالاستفادة والتعلم، وربما سموا كذلك كما كان اليهود يقولون عن غيرهم من الأمم (جوييم) باللغة العبرية، أي أمميون نسبة إلى الأمم، بوصفهم شعب الله المختار، وغيرهم هم الأمم، ولقد كان اليهود ينتظرون مبعث الرسول الأخير منهم، فيجمعهم بعد فرقة، وينصرهم بعد هزيمة، ويعزهم بعد ذل. وكانوا يستفتحون بهذا على العرب، أي يطلبون الفتح بذلك إلى النبي الأخير، ولكن حكمة الله اقتضت أن يكون هذا النبي من العرب، من الأميين غير اليهود)). الآية السادسة من سورة البقرة: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون) البقرة/ 78. فسرها الطبرسي وسيد قطب بما يلي: ((تحدثت الآيات التي قبلها عن بني إسرائيل، ثم يستطرد النص القرآني، فيقص على المسلمين من أحوال بني إسرائيل: أنهم فريقان: فريق أمي، جاهل لا يدري شيئاً من كتابهم الذي نزل عليهم، ولا يعرف منه إلا أوهاماً وظنوناً، وإلا أماني في النجاة من العذاب، بما أنهم شعب الله المختار، المغفور له كل ما يعمل، وما يرتكب من آثام. وفريق يستغل هذا الجهل وهذه الأمنية، فيزور على كتاب الله، ويحرف الكلم عن مواضعه بالتأويلات المفرقة، ويكتم منه ما يشاء، ويبدي منه ما يشاء، ويكتب كلاماً من عند نفسه يذيعه على الناس، باسم أنه من كتاب الله. كل هذا ليربح ويكسب، ويحتفظ بالرياسة والقيادة)). هذه هي الآيات التي تحدثت عن كلمة (أمي) (وأميين). وقد فسرها أئمة اللغة العارفون بها بمعنى: عدم القراءة والكتابة. فالطبرسي قال: ((الأمي عند العرب هو الذي لا يكتب لأمه، لأن الكتاب كان في الرجال دون النساء، فنسب مَن لا يخط ولا يكتب من الرجال إلى أمه في جهله بالكتابة دون أبيه .. )). أما أبي حيان الأندلسي في البحر المحيط، فقال: ((الأمي الذي لا يقرأ في كتاب ولا يكتب، نسب إلى الأم، لأنه ليس من شغل النساء أن يكتبن ويقرأن في كتاب)). سيد قطب والطبرسي قالا: ((العرب سموا بالأميين، لأنهم لا يقرأون ولا يكتبون)). ولخاصة ما نستنتجه من معاني كلمة (أمي) في القرآن تصنف كما يلي: 1 ـ وردت كلمة (أمي) بلفظها المفرد مرتين في القرآن الكريم، وكلتاهما وصف للرسول بالأمية، التي تعني عدم القراءة والكتابة، وسياق النص يؤكد المعاني اللغوية للكلمة. 2 ـ وردت الكلمة بصيغة الجمع (الأميون) أربع مرات في القرآن الكريم، موزعة كما يلي: المرة الأولى: وصفاً لليهود (منهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني). والمرات الثلاث: في وصف العرب. وعلى هذا كله، فكلمة أمي تأتي بمعنى: (أ) مَن لا يجيد القراءة والكتابة. (ب) غير اليهود من الأمم. (ج) الأمة قبل أن تتعلم، فتكون على جبلتها الأولى، التي خلقت عليها. (د) ينطبق عليها المعنى اللغوي الراجح، والأصل للكلمة بمعنى عدم القراءة والكتابة، وهذا مؤيد بسياق النص أيضاً. (هـ) تبقى الكلمة، إشارة واضحة إلى المعجزة التي جاء بها رسول الله، تدعو الناس إلى الإيمان واتباعه. نسأل الحريري: لماذا سمي العرب بالأميين أساساً؟ أليس لأنهم لا يقرأون ولا يكتبون؟ ولماذا سمي أولئك بالكتاب، أليس لأنهم يقرأون ويكتبون؟ فسواء كانت كلمة أمية الواردة في القرآن تعني أمية النبي فعلاً، أو أنها عنت ما ذهب إليها الحريري. النتيجة بالحالين سواء، لأن هؤلاء ما عرفوا بالأميين، إلا لأنهم أميون، والنبي واحد منهم .. من ناحية أخرى هل كانت (الأميين) تسمية حصرت بالعرب، بحيث لم تشمل كل من جهل القراءة والكتابة، سواهم من اليهود والنصارى؟ وهل تسمية (الكتاب) كانت حكراً على هؤلاء، فلم تشمل العرب القارئين الكاتبين؟ الجواب على هذا السؤال نجده واضحاً في الآية التالية: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون) البقرة/ 78. ومتى عرفنا، أن هذه الآية موجهة بصراحة ووضوح إلى اليهود، التي جعلتهم فريقين: فريقاً (أميون) لا يعلمون من الكتاب إلا أماني. وفريقاً يستغل هذا الجهل، ويزور كتاب الله. لأدركنا، أن الأمية صفة لم تكن مقتصرة على العرب، وإنما شملت كل جاهل بالقراءة والكتابة، حتى ولو كان نصرانياً أو يهودياً. وهذا يؤكد، بأن الأمية التي ذكرها القرآن وعناها، ليست بمعنى تعريف بشخصية محمد الاجتماعية، وإنما هي تعبير عن حالة، هي حالة جهل النبي للقراءة والكتابة. أمر آخر لابد من التنويه به، هو أن تخصيص التسمية بالعرب، وحصرها بهم، يعني أن هؤلاء كانوا معروفين باسمين: أميين وعرب بنفس الوقت. ويمكن مناداتهم بهذه أو بتلك، فإن قلنا الشعب العربي، فكأننا نقول الشعب الأمي، والعكس صحيح أيضاً، وهذا أمر مستهجن لم يتحدث عنه مؤرخ ولا باحث، مما يستوجب رده واستبعاده. لقد استند المؤلف في رفضه لأمية النبي، إلى أمور ثلاثة هي: الأول: إن كلمة (أمي) لا تعني جهالة بالقراءة والكتابة، وهذه النقطة عالجناها بتوسع. الثاني: إن جبرائيل كلّم النبي، وقال له (اقرأ)، فكان ذلك دليلاً بنظر الحريري، لإثبات معرفة النبي بالقراءة. الثالث: بأن عاطفة أبي طالب نحو النبي، وتعلقه المعروف به، لا يمكنانه حرمان ابن أخيه العلم، وتمكينه لولده علي. أما وقد ناقشنا الأمر الأول، فما علينا إلا مناقشة الأمرين الآخرين. بالنسبة لطلب جبرائيل إلى النبي أن (اقرأ باسم ربك الذي خلق) العلق/ 1، هذا الأمر يدفعنا للحديث عن كيفية ظهور جبرائيل على النبي، أكان روحياً أم مادياً؟ وبالتالي، أكان طلب القراءة إليه بمعناه الروحي، أي بمعنى اسمع يا محمد، وردد، واستوعب باسم ربك كلام ربك الذي أحمله إليك؟ أم بمعناه المادي؟ أي بمعنى أن يكون جبرائيل قد حمل إلى النبي صحفاً مكتوبة، دسها إليه، ثم طلب إليه أن يقرأها باسم ربه. وهذا مستبعد تماماً، لأنه لو كان الأمر كذلك، لكان بإمكان الناس جميعاً رؤية جبرائيل بأعينهم، كما رآه محمد. فالمنطق والعقل السليم يدفعان باتجاه اليقين، بأن يكون الوحي قد نزل على النبي روحياً، والقراءة المطلوبة من النبي كانت بمعنى فهم، واستيعاب، وترديد كلام الله، المنقول إليه بواسطة جبريل، بمعناه الروحي أيضاً. ولا دخل لها بمعرفة محمد بالقراءة والكتابة، أو عدمها، كما لم تعد والحالة هذه معرفة النبي بهما شرطاً، لكي يقرأ أو يستوعب الوحي الإلهي. الدكتورة ناديا شريف العمري عرفت الوحي، فقالت: ((الوحي، بمعنى إلقاء الله تبارك وتعالى الكلام، أو المعنى في نفس الرسول بخفاء وسرعة، وظاهرة الوحي مرافقة للنبوة، وهي خارقة للعادة)). وعليه فإن استناد صاحب اللقيط على تفسيره المغلوط للآية، وجهل مقاصدها الحقيقية، لا يكفي لإثبات معرفة النبي بالقراءة والكتابة، ورفض معجزة أميته. بقي الأمر الثالث، وهو أن أبا طالب من حبه لمحمد، وتعلقه به، لا يقبل أن يجعل العلم ممكناً لولده علي، ويحرمه لابن أخيه محمد. لمناقشة هذا الأمر، لابد لنا من العودة إلى طفولة النبي، إلى الجو العائلي، والفكري، والاقتصادي، والاجتماعي الذي عاش وسطه، وإلى البيئة العائلية القلقة التي قضى طفولته وسطها، متنقلاً من كنف إلى كنف، ومن يد إلى يد، ومن بيت إلى بيت، حتى كاد لا يعرف من كان فعلاً ولي أمره في طفولته، وظل أمره كذلك حتى صار يافعاً فشاباً. ثم نتساءل بعدها: هل أن أمية محمد وسط هذه الطفولة المضطربة، وحياته القلقة مستبعدة ومستغربة؟ لقد أبصر النبي النور وعيناه لم تبصرا والده، الذي مات قبل أن تلده أمه. وماتت أمه آمنة، وهو لا يزال طفلاً، فعهد به إلى مرضعة ترضعه، رفضته بداية لفقر أهله، ثم أرضعته حليمة لا لأجل كسب مادي، وأهله لا حيلة لهم على الدفع السخي المغري، وإنما شفقة وعطفاً، ثم كفله جده عبدالمطلب، الذي كان في عمر بدأت شمسه بالمغيب. وعندما مات النجد، كان النبي لا يزال صبياً صغيراً، فتعهده عمه أبو طالب، المعروف بفقره، وكثرة عياله، وعندما أصبح النبي يافعاً، كان فقر عمه دافعاً له أن يشتغل في رعاية الإبل والغنم، ولا نعرف كم من الوقت قد رعى. وعندما أصبح النبي في السنة الثالثة عشرة من عمره، صحبه عمه أبو طالب إلى الشام، ليساعده في التجارة، وبعدما رجع النبي من الشام بسنوات قليلة، صمم أن يتحمل عن عمه بعض أعباء عائلته الكبيرة، فعمل عند خديجة، وكان عمره آنذاك لا يتعدى العشرين سنة. وكان ابن عمه علياً لا يزال طفلاً صغيراً، وعندما اشتد الفقر على أبي طالب، وعض العوز بأنيابه على عياله، اجتمع الأقربون من بني عبدالمطلب وقرروا مساعدة كبيرهم أبي طالب، فتوزعوا أولاده فيما بينهم، فكان علي من نصيب محمد، ومذّاك عاش معه وتربى في كنفه. وعندما تزوج النبي من خديجة، وتحسنت أوضاعه المادية، انتقل علي معه إلى بيته الجديد. وأكثر الظن أن يكون تعليم علي القراءة والكتابة، قد بدأ في ذلك الوقت بالضبط، وبقرار من النبي، لتعويض ابن عمه من العلم ما حرمه الدهر منه، بينما كان قطار العلم بالنسبة للنبي قد فات. وكأني بالنبي، كان يزفر حسرته وشكواه من دهره الذي حرمه نعمة العلم، وهو يحث المسلمين عليه فيقول: ((اطلبوا العلم ولو في الصين)). لقد علّم النبي علياً وفاء لبعض ما قام به عمه نحوه، وتعبيراً عن حب وإعجاب، كان النبي يكنهما لابن عمه علي، فهل كان أبو طالب بوضعه المادي المعروف، قادراً أن يعلم ابن أخيه، رغم حبه له وتعلقه به، وهو لم يكن قادراً أن يطعمه أو يطعم أولاده؟ والعلم ذلك الوقت كان يكلف الكثير الكثير، بحيث كان متيسراً فقط للأغنياء والموسرين. لقد تعلم علي في ظروف اقتصادية ملائمة، ليست هي نفس الظروف القاسية التي حرمت النبي من العلم. محمد عاش في بيت فقير، مطلوب من ربه أن يفكر أولاً بتأمين لقمة العيش لأطفاله، قبل مصاريف العلم والتعليم وتحمل نفقاته من قبل النبي، وهذا لم يكن متيسراً لأبي طالب، كي يخدم ابن أخيه به رغم حبه له. ومن هنا ندرك سبب أمية محمد، وتعلم علي. هذا من ناحية ظروف حياة النبي وتعقيداتها، أما من الناحية الاجتماعية، فإننا نتساءل: هل كانت الأمية بنظر الأهل آنذاك عيباً يستدعي ستره، وعبئاً يفترض التخفف منه؟ فالأمية كانت متفشية في مكة، لدرجة أنها كانت السمة التي تجمع بين شباب كل العائلات، حتى أن العرب عرفوا بهذه الأمية، وعرفت بهم حسبما زعم المؤلف. لقد كانت الأمية أمراً طبيعياً، وظاهرة معروفة في شباب مكة، وكانت الطبيعة الصحراوية، والحياة القبلية، وأنماط العلاقات القائمة آنذاك بين الناس، كلها تساعد على بقاء الأمية سائدة مقبولة، بحيث لم يكن الناس في المجتمع البدوي يشعرون بالحاجة لعلم، أو معرفة قيمته، أو الحرج من الجهل .. أمستغرب بعد ذلك أن ينشأ النبي أمياً؟ والأمية تحيط به من كل جانب؟ أمستهجن أن يشب محمد على غير العلم، والعلم في زمانه مكلف وقليل ونادر؟ وهو المتنقل من يتم كامل إلى كفالة متتابعة، في بيوت يجمع بينها الفقر والعوز؟ كل ا لظروف التي عاشها النبي منذ طفولته وحتى نبوته، تعزز اليقين، وتقوي القناعة، بأن أميته أو جهله القراءة والكتابة، أمر لا شك فيه ولا ريب. وقد أقر درمنغام بأمية النبي حين قال: ((إن أبا طالب حين كفل محمد بعد وفاة جده، لم يكن غنياً، فلم يتح له تعليم الصبي، الذي بقي أمياً طوال حياته)). وتحدث ديورانت حول أمية النبي، فقال: ((يبدو أن أحداً لم يعن بتعليمه القراءة والكتابة، ولم تكن لهذه الميزة قيمة عند العرب في ذلك الوقت، ولهذا لم يكن في قبيلته قريش كلها، إلا سبعة عشر يقرؤون ويكتبون، ولم يعرف عن محمد أنه كتب شيئاً بنفسه)). أمر آخر يفيدنا بحثه، في سياق معالجتنا لأمية النبي، ذلك أن النبي ظل يبشر بدعوته، ويناضل في سبيلها مدة 23 سنة وطيلة هذه المدة كان يكتب الوحي، ورسائله إلى الملوك ورؤساء القبائل، وعهوده، ومواثيقه، وقراراته، بواسطة كتبة معروفين، كان يكلفهم بهذه المهمة على مسمع ومرأى من أقرانه بالعمر والمعايشة، والنبي طيلة حياته كان يتصرف في جميع شؤون الدعوة، على أساس أنه أمي. فلو كانت أميته ادعاء وزعماً كما ذكر الحريري، لافتضح أمره على الأقل بين أترابه وأقرانه، الذين كانوا ولابد يعرفون أن أميته مزعومة، وكلهم كان حي يرزق، عاش وإياهم قبل النبوة، وعاش وإياهم بعدها. فكان ذلك كفيلاً أن يفقده، وإلى الأبد مصداقيته أمامهم. وكان هذا سيفضحه أمام من علمه القراءة والكتابة، أمام أهله وذويه، أمام صحابته وأقربائه، ومن منهم بعدها سيصدقه في باقي أمور دعوته برمتها؟ هذا بالإضافة إلى فضحه أمام أعداء الإسلام، بحيث يكون ادعاؤه الأمية مناسبة طيبة، وفرصة مؤاتية، وشاهداً للتشكيك برسالته، والطعن بمصداقيتها، وهم يفتشون على مثلها. ولكن الغريب أن شيئاً من هذا كله لم يحدث. أمر آخر يستدعي الانتباه، هو أنه لو كان موضوع أمية محمد قد طرح بعد وفاته بزمن طويل، لكان بالإمكان الشك به واعتباره مدسوساً ومختلقاً. ولكن الأمر مختلف جداً، فأمية النبي أمر ذكره القرآن في عدة آيات، واطلع عليه صحابته، وأنصاره، وأعداؤه، والكارهين له. فلم يحدث أن اعترض عليه صديق، أو شكك بصحته عدو، مع سهولة اكتشافه وفضحه. وإذا كان الحريري، قد استند في رفضه أمية النبي، إلى تفسيره المغلوط لآية من آيات القرآن، إلا أن في القرآن آية واضحة النص، صريحة المعنى، تؤكد أمية النبي وتثبتها. فلماذا لم يفطن لها ولم يتذكرها؟ والآية هي: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون) العنكبوت/ 48. * المصدر : الاسلام والمسيلمة في الميزان شارك هذه المشاركه رابط المشاركه شار ك علي موقع اخر
ohabo raby 87 قام بنشر September 26, 2010 جزاك الله خيرا اخى سبرتو شارك هذه المشاركه رابط المشاركه شار ك علي موقع اخر