نعم نحن هكذا سلفيون
إن الساحة التونسية الإعلامية منها والسياسية تكاد تقف سكناتها على ظاهرة أخذت حيزا كبيرا في وسائل الإعلام وعند الرأي العام في الآونة الأخيرة، والتي يراد من وراء إثارتها باطلا راجعا لا محالة بالسحق على أصحابه، وادعاء مبطنا للبحث عن كبش فداء يغطي الفشل الذريع الذي منيت به شريحة عريضة من السياسيين، ألا وهي ظاهرة السلفية. فلا يستكين بنان هذه الفعاليات السياسية بمختلف مشاربها، من أصحاب أحزاب وجمعيات ومجتمع مدني، من الإشارة إلى هذا الغول الداهم والخطير الذي يؤرق مضاجعهم، ويفسد عليهم راحة نضالهم الديمقراطي المتمثل في السلفية. ونضالهم هذا لا يفتأ إلا أن يكون كما نراه كل يوم شتائم وسبابا في بلاتوهات تلفزية خصصت للغرض، مع تفنن العديد من فقاقيع ما بعد الثورة في اجترار بعض المصطلحات الخشبية التي عهدناها في مرحلة سابقة وفي حلقات نقاش مراهقة في الجامعات، واستعراض لقوة مرافعات بطولية، ومزايدات تربو بصاحبها للوصول الى مآرب سياسية أو تموقع يدر عليه منصبا وجاها مفتعلين، كما هو الشأن في ما تراه كل عين بصيرة في مجلس تأسيسي برهن على فشل أعضائه – وباعترافهم الشخصي - ليس في تحقيق أهداف الثورة فحسب، ولكن كذلك في القيام بأبسط واجب الحضور في مداولات هذا المجلس الموقر الذي راهن عليه الشعب الكادح في مواجهة تحديات المرحلة واستجابة لمقتضيات اهداف الثورة. وبات حلبة تدافع بين اتجاهات مختلفة تُستعمل فيها حتى القوة والتشابك بالأيادي. نعم تفنن العديد من هؤلاء الساسة في شحذ الهمم واكالة التهم لهذا التيارالسلفي وتأليب الرأي العام عليه دون الغور في واقع الحال لبلادنا التي مرت ولا تزال تعرف جفافا روحيا وتغريبا ممنهجا، وسياسة تهدف الى تجفيف المنابع ببلادنا طيلة ردهات تاريخية طويلة، وأدى كل ذلك في النهاية الى تصحر أتى على الأخضر واليابس ومس ميزان القيم والمرجعيات ومن وراء ذلك دك صرح الهوية وطمس الذات، غير ان الانتماء الجغرافي والحضاري ووسائل التواصل الحديثة خففت وطأة هذا التصحر على الاف الشباب واعاد له رشده ومن هؤلاء شباب التيار السلفي. والسلفية لمن لا يعرفها وأنا لي شرف رئاسة اول حزب سلفي بتونس بعد الثورة هي ببساطة وتجرد، الايمان الجازم بأن لا حل لمشاكل الأمة إلا بالرجوع إلى الشريعة لتقنين مسار المجتمع سلوكا وحضارة وتعاملا. والاعتقاد لدينا أنه لن يصلح حالنا الا بما صلح به من سبقنا من سلفنا. ويعتبر السلف الذي نتقيد بسلوكه قولا وفعلا وهو نبراس يضيئ الطريق أمامنا، هو سيرة خاتم الانبياء ورسول هذه الأمة محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم الذي لم يترك لنا شاردة ولا واردة الا بينها لنا ولكل من اقتفى أثره وتيمن بسيرته. فإقراء الضيف واحترام الجار وصلة الرحم، والقناعة بما وجد، والصبر على المكاره والاحسان بالبدر والصدق عند الحديث، وإفشاء الخير ودرأ الشر والحفاظ على الدين والنفس والعقل والعرض والمال، كلها قيم نقلها سلفنا إلينا آمنا بها ونريد نشرها في مجتمعنا بالكلمة الطيبة، وحسن المعاملة دون قسوة قلب ولا عنف لفظي ولا جسدي. فإن الأخلاق الإسلامية والتي جاءت نصوصها من الكتاب والسنة كانت ولا تزال سمات المؤمنين وعلمٌ يجب علينا تعلمه ومنهاجٌ لابد أن نسير على طريقته. إذ أنها لا تزيغ بحاملها إلى مواضع النقد والعيب واللوم، ولا تميل بصاحبها إلى أماكن الذنب والخطيئة والإجرام، ولا توقع بمالكها إلى مواطن الرديئة والخسّة والاقتتال. فهي أي هذه الاخلاق وحيٌ إلهي، وهديٌ نبوي، وتصرفات فضيلة وضّاءة، وخُلُق نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، حيث قال تعالى فيه {وإنّك لعلى خُلُقٍ عظيم}. وهي سلوك المسلم العالم بأمور دينه، المتيقن بزوال دنياه ومجيء آخرته، وهي الأجر العظيم ومثوبة من عند الرب الكريم لمن جعلها رداءاً فلبسها، وتاجا فوضعه فوق رأسه، وأماراتٍ أمام عينيه يهتدي بها إلى الطريق السليم . فمجموعة هذه الأخلاق الإسلامية السامية هي لصيقةً بتصرفات المسلم في يومه وليلته، وافتقدناها في مجتمعنا اليوم وكذلك في أنفسنا، لكن تحلى بها سلفنا. وهي كثيرة ولكن نأخذ منها على سبيل المثال لا الحصر بعض السجايا كالحياء الذي يجعل من صاحبه حيُ الضمير، مرهف المشاعر، محب للتواضع، عاشقٌ للهدوء والسكينة. والحياء خُلُق الإسلام كما قال صلى الله عليه وسلم " لكل دين خلقا وخلق الإسلام الحياء". ومن أخلاق المسلم الزهد وقيل إنه أعلى مراتب القناعة. والزهد لباس الراغب في لقاء الله الطامع في جنته، وظلال المتيقن بدناءة هذه الدنيا وخستها، وعيش المقرّ بفناءها وزوالها. كما أن الكرم هو أحد مقوّمات هذا الدين العظيم، إذْ لا يقبل البخل، ويتضجر من أهل الشح، وتوعد أهل الإنفاق بالخير الكثير قال تعالى { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه}. ولا يفوتني أن أشدد على صفة العدل أساس كل أمن، وطريق كل عيش سعيد، وأمنية المظلوم، ورغبة من يشتكي الجور والبهتان، هو التساوي بين المخلوقين، والتراحم فيما بينهم، والمحافظة على حقوقهم، والأخذ على يد جاهلهم وضعيفهم وصغيرهم. العدل هو ميزان الله تعالى في الأرض الذي يؤخذ به للضعيف من القوي، والمحقّ من المبطل. قال تعالى: { وأقسطوا إن الله يحب المقسطين }. والصدق خلق كل مسلم لأن من سلك دربه وصل، ومن لزِمه نجى، ومن عمل على إقامته أُجِر، ولأنه سمةٌ من سمات المؤمنين، وخُلُق من أخلاق المتقين، وصفةٌ من صفات أهل الفضل، فقد حرّض عليه الإله جل شأنه، ووعد من يتّصف به دار النعيم. ذلكم هو الصدق، منارة الحق، وعنوان الولاء لله تعالى وقال { فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم } وهو علامة لأهل الإصلاح، وحجة الأنبياء والرسل للناس فهذا نبينا عليه الصلاة والسلام كان يسمّى قبل الإسلام بالصادق الأمين، وهذا إسماعيل عليه السلام يقول عنه الله تعالى : { واذكر في الكتاب إسماعيل إنّه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيّا } والأمانة مطلب إسلامي حق و أمرها عظيم، ومعانيها كثيرة وجليلة، يحملها جميع الناس علموا ذلك أم لم يعلموا. والأمانة: حفظ سر، وإيفاء وعد، وإقامة عدل، وأمرٌ بمعروف، ونهيٌ عن منكر، وصدق حديث. والأمانة: تحميك من كل دنيّة، وتهديك محبة الناس على اختلاف آرائهم وأعمارهم في ضياعها تُؤسر الحقوق، وتتعطّل المهن، ويغوص الناس في بحور الظن، ويتسكّعون في ميادين الوهم، لا ثقة واضحة بينهم، ولا حب خالص يجمعهم. كما نراه في بلادنا اليوم. كما أن الحلم سجية مرغوب فيها عند سلفنا فهو ثباتك أمام من ينهرك، وثقتك بنفسك أمامَ من يستصغرك، وسلاحك لمن أرد أن يقتلك الحلم هو كظمك الغيظ، وعفوك عن المخطئ، وصبرك على الإساءة. فالحلم هو سيّد الأخلاق، وعلامة للصابرين المحتسبين، وصفةٌ محبوبةٌ لرب العالمين والحلم عنوان الصفح والعفو. قال تعالى: { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين }. ومن محاسن هذا الدين الشريف أنه رغّب في الشورى، وأرشد إلى التعاون فيها وإبداء الرأي، والسماع للآخر قال تعالى: { وشاورهم في الأمر } وفي المشورة نور بعد ظلام، وهدى بعد ظلال، وسلامة بعد خوف وحذر وتخبّط، وقالوا قديماً : لا مال أوفر من العقل، ولا فقر أعظم من الجهل، ولا أظهر أقوى من المشورة. كل هذه الصفات يجب ان يتحلى بها المسلم ويكابد النفس على الالتزام بها قبل غيره. وخاصة من اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم قدوته. فلا غرور أن يكون السلفي هو اول المتقدمين المتحلين بهذه الصفات. فكيف به أن يظلم أو يقتل أو يعتدي. فهو إن فعل ذلك خرج عن سيرة السلف وبعد عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. وإذا كانت الصحوة الإسلامية قد هيأت أرضية مناسبة لنشر هذه الاخلاق فإن الحماس الزائد في فرض المناخ الإسلامي، والإدارة الخاطئة أحيانا لأشكال التدافع مع التيارات العلمانية وغيرها ممن يحاربون الاسلام جهارا او خلسة، انحرفا بهذا التوجه عن غايته، وبتنا نشاهد مواقف وسلوكيات أقرب إلى النفاق العام منها إلى القيم الإسلامية . وان الاصوات التي تعالت ومنذ الثورة في بلادنا مطالبة بالعدالة والمساواة بين الفئات والجهات واالأفراد، وارساء قواعد العدل في البلاد لا يتحقق ذلك في منظورنا الا بالرجوع الى هذه السجايا من خلال الاعتماد على كتاب الله وسنة نبيه، وهو مطلب حزبنا، واغلب شرائح مجتمعنا ولزاما علينا ان تكون الشريعة اذا اردنا خيرا ببلادنا مصدر التشريع في قوانيننا. فلا مندوحة ان يكون التنصيص على ذلك في الدستور ضروريا حتى نضمن لبلادنا خير المسار ولشعبنا حسن التوجه. أما ما نراه في ساحتنا السياسية وما تتداوله وسائل اعلامنا من تضخيم لوقائع ومن تجني على الاحداث، دون التعرف على حيثياتها ودوافعها ومن يقف وراءها، فهو لهث كاذب يهدف لتحقيق اهداف غير وطنية شخصية ذات مصلحة آنية، او تخدم أغراض أخرى لها أبعاد تتجاوز حدودنا الوطنية. الدكتور محمد خوجة رئيس جبهة الإصلاح